- tv
- 3:58 م
- موسوعة المسلم
- لاتوجد تعليقات
الفجوة الحضاريّة الهائلة بين الغرب والعرب، وما وصلت إليه إمبراطورية عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، جعلنا نقف دومًا منبهرين بمستوى التطور المدني في كافة مناحي الحياة، ونتُوق إلى تراكمات حريّة الإبداع الني أسّس لها المجتمع الأمريكي في مختلف الميادين.
لكن الإعجاب المستحقّ بمنجزات الإنسانية، لا ينبغي أبدا أن يدفعنا إلى اعتناق مذهب طه حسين، ذلك الأديب الكفيف الذي استهوته باريس في الثلاثينات وسلبت عقله في عزّ التخلف العربي، فدعا الأمة أن تأخذ عن الغرب صناعته بحلوها ومرّها وفق تعبيره!
واليوم، مثل طه حسين لم يعد مجرّد شخص، بل صار تيّارا قائما بذاته، يختار لنفسه جميل الألقاب الرنّانة من قبيل “الحداثة” و”الليبرالية” و”الديمقراطية”، مستغلاّ درك الهوان والتبعية التي تقبع فيها دول العالم الإسلامي بشكل عام، ليُرافع تحت ذريعة عصر “العولمة” لإلغاء كل خصوصية وطنية أو قومية أو حضارية في أبعادها الدينيّة والاجتماعية والتاريخية!
إذا كنّا فعلاً نَدين للغرب الذي استلهم من تراثنا العلمي، بما قدمه للبشرية في القرون الأخيرة، فإن هذا العالم المتطور لا يمثل النموذج المثالي لبقية الأمم التي هي مختلفة عنه حضاريّا.
وهنا أودّ على سبيل المثال لا الحصر، أن أقدّم الوجه الآخر لأمريكا التي لا نعرفها، وذلك انطلاقا من “تصريح رسمي” قرأته لوزير الدفاع تشاك هيجل يقول فيه: “سنحلّ مشكلة الاعتداءات الجنسية بالجيش”!
هل تدرون ما هي خلفية هذا التهديد المبطّن لوزير أمريكا ضد جنود وقادة أكبر جيش في العالم؟، لقد صدر قبل أسبوع فقط تقرير سنوي لوزارة الدفاع عن الاعتداءات الجنسية بالجيش، أكد أن حالات الاعتداء الجنسي زادت بنسبة 37% عام 2012 لتصل إلى 26 ألف حالة مقابل 19 ألفا عام 2011!
هذا التقرير المُفزع دفع بالرئيس أوباما إلى برمجة اجتماعات أسبوعية مع وزير الدفاع هيجل حول المشكلة، إلى أن تتم السيطرة عليها، وقال إن جهوده لن تتوقف “قبل القضاء على هذه الآفة في أعظم جيش بالعالم” وتعهد بالعمل مع الكونغرس لاستصدار تشريع لمعالجة هذه المسألة، وفق ما نقله الإعلام الأمريكي.
لكن الآفات الاجتماعية والأخلاقية التي تقوّض المجتمع الأمريكي من الداخل، لا تتوقف عند الشذوذ الجنسي لجنود الجيش الأمريكي الذين لا يعرف ربعهم (1/4) من هو أبوه؟، بل تعدت تلك الآفات الفتاكة إلى عموم المجتمع المدني، إذ تُشير الإحصائيات والأبحاث التي أجرتها مراكز بحث أمريكية مثلا، إلى أن الخيانة الزوجية تصل إلى 60 % وسط الشعب الأمريكي، ما جعل 26 % من الأمراض في أمريكا هي أمراض جنسية نتيجة العلاقات الغير مشروعة، كما تقدّم الأبحاث أرقاما مذهلة عن الاعتداءات الجنسية في حقّ الفتيات والقاصرات، إذ يبلغ معدل حالات الاغتصاب سنويّا داخل أمريكا 500 ألف حالة، 20 % منها يرتكبها الآباء!، علما أن عدد الشواذ في أمريكا وصل إلى خمسين مليونا، أي ما يقارب 1/6 من الشعب الأمريكي مصاب بالشذوذ الجنسي! وتؤكد ذات الإحصائيات أن 80% من الشباب الأمريكي دون الثامنة عشرة في المدن الكبيرة مثل: نيويورك أو سان فرانسيسكو أو لوس أنجلوس ارتكبوا جريمة الزنا، وفى القرى تنخفض النسبة إلى 33 % بين هذه الفئة العمرية التي يطلقون عليهم أطفالا !.
هذا الانتشار الفظيع للعلاقات الجنسية خارج إطار الزوجية، جعل 24 % من العائلات الأمريكية لا تعرف لقب الأب ولا يوجد بها أب أصلا!.
تلك أرقام جزئية فقط عن آفات الجنس، ناهيك عن معدلات القتل والانتحار وتعاطي المخدرات والكحول والجريمة بكل أنواعها، برغم ظروف العيش المتقدمة جدا!.
هل بعد هذه البلاوي المُنذرة بانهيار “المدنية الغربية” التي ينخرها الفساد الأخلاقي من جذورها، كما يقول المفكر الفرنسي رجاء جارودي رحمه الله، ما يزال البعض من بني جلدتنا لا يفتأ ينادي بالانخراط في مسار العولمة بكل تجلياتها، ويدافع عن الأخذ بكل التشريعات الأمميّة تحت دعاوى حقوق الإنسان الكونية والمساواة بين الجنسين، حتى نجد أنفسنا في يوم قريب مُجبرين على تطبيق “قانون الجندر”، وإجازة زواج المثليين، وسواها من السياسات التي لا تنافي الديانات السماوية فقط، بل تنسف الفطرة الإنسانية من أصلها!.
رحم الله الشاعر العربي أحمد شوقي الذي قال يوما:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت * وإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وقد علّمنا نبيّنا الهادي عليه صلوات ربّي، أن مقصد الرسالات السماوية كان صيانة الأخلاق التي هي عماد الحياة ومبتغى كل الشعائر والعبادات، فقال “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
إن ما يعيشه الغرب اليوم من انهيار قيمي رهيب، هو مؤشّر مُبين على تسارُع العدّ التنازلي في “الدورة العمريّة” وفق نظرية ابن خلدون، لمدنيّة خاوية، وفّرت كل أسباب الرفاهية المادية للإنسان، لكنّها سلبته الروح والسكينة القلبية، وجعلت منه حيوانا آدميّا وآلة بشريّة، تُطوّعها لخدمة الأقلية السيّدة في مجتمعات قوامها “الديمقراطية” التي يصنعها ويستغلّها أرباب المال والأعمال لاستعباد الرقاب والعباد، ناهيك عن باقي المجتمعات والأمم!
صحيح أن الغرب الذي يكرهنا ونكرهه، قد أرسى دعائم دولة المؤسسات التي تضبط آليات ممارسة الحكم، وتقيّد سلطات الحاكم، وتقوّي من نفوذ جهات الرقابة على تصرفاته وسياساته، ما جعل من الشعب مصدر السلطة الأوّل وإن شكليّا، وفق تحفظات بعض الرافضين لواقع العملية الديمقراطية في الغرب، كونها من منظورهم قائمة على هيمنة جماعات الضغط ولوبيات المال والمصالح التي تصنع الرأي العام عن طريق الضخّ الإعلامي.
لكن منظومة الحريات المطلقة خارج سياق الدين والفطرة البشرية، هي التي دمّرت الإنسان الذي يبقى محور “الصناعة الحضارية” وبناء الدول، سلبا أو إيجابا، ومن هنا سوف لن تصمد تلك المؤسسات الدستورية والقانونية في المستقبل أمام تفسّخ أفراد المجتمع!.
علينا نحن في عصر التدفق الإعلامي والاتصال المعلوماتي الذي يخترق كل الحدود التقليدية ويتجاوز كافة الخصوصيات الحضارية، أن نتعلّم كيف ننتقي من الانجاز الإنساني المُفيد، الذي نستعين به على استدراك نقائصنا، لكن في ذات الوقت نفعّل مخزوننا التراثي والديني لاستئناف المسيرة الإسلامية التي حقّقت على القرون الأولى العدالة والسلم والازدهار.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق